يوم العبور الجولاني - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني

يوم العبور الجولاني
حامد الحلبي\دمشق – أيار 2011
في أيامه الأخيرة جلس أمير البيان ، والمناضل الكبير الأمير (شكيب ارسلان) مع أحد الوجوه اللبنانية البارزة ، صديقه (عبد الله المشنوق) في شرفة بيت يطل على مدينة بيروت ، سعيدا بنيل لبنان استقلاله ، ومستذكرا حياته الحافلة بالجهاد ، والإبداع من اجل حرية العرب والمسلمين ووحدتهم ونهضتهم، ومسرورا بإنشاء جامعة الدول العربية التي كانت قد أنشئت قبل عام من هذا الحديث – وقد ساهم الأمير بذلك- وكانت الآمال معلقة عليها في تحقيق وحدة العرب .
و يروي ( الأستاذ عبد الله مشنوق ) العبارات التالية التي قالها له الأمير:
(إني مريض واشعر بدنو الأجل وأنا احمد الله عز وجل الذي سهل لي أن أفارق الحياة على ارض هذا الوطن الذي أحببته وقاسيت من اجله التشريد والنفي والاضطهاد . اجل سأموت هنا قرير العين ناعم البال فتختلط رفاتي بتربة هذا الوطن بعد أن أتم الله نعمته عليَ فشهدته سيدا حرا عزيزا . أنا سعيد أن ادفن في تربة طاهرة لا ترفرف فوقها راية أجنبية ، وأنا سعيد أن ألاقي وجه ربي الكريم فأعيد هذه الأمانة إلى بارئها بعد أن تحققت أحلام طفولتي في هذه الجامعة العربية حرسها الله، وسأخبر رفاقي في الجهاد بان تضحياتهم لم تكن عبثا .. وهنا ذرفت عينا الأمير دمعتين كبيرتين ونهض عن كرسيه وجذبني إليه وقال: لي وصية واحدة أود أن أوصي بها هل تعدني بان تنقلها إلى العالم العربي بعد وفاتي ؟
فأجبته لك العمر الطويل إن شاء الله
- لا : بل تعدني بنقل الوصية
- قلت نعم ! فطوقني بذراعين مرتجفتين وقال بصوت أجش كادت تخنقه العبرات ...
- أوصيكم بفلسطين ...)
بعد فترة قصيرة من هذا الحديث ، توفي الأمير في 17-12-1946 ، بعد وفاته بسنة ونصف ، أعلن قيام دولة إسرائيل في 15-أيار-1948 . ووقع القسم الأكبر من فلسطين تحت الاحتلال، وتشرد معظم شعبها.
وهكذا.... تحقق ما كان الأمير يقاومه ويخشاه ... فقد أقام المشروع الصهيوني دولته في فلسطين... وبدأت النكبة .
- بقيت قضية فلسطين حية في العقول والضمائر عبر الأجيال ... وقدم الشعب الفلسطيني تضحيات كبيرة في سبيل تحقيق حلم العودة وإقامة الدولة المستقلة فوق أرضه ... ولكن حلم العودة لم يتحقق....

- في الذكرى الثالثة والستين للنكبة المصادفة ليوم الأحد 15- أيار- 2011 ، تجمع الشباب الفلسطيني من من مخيمات الشتات في سورية ... ومعهم إخوة لهم سوريون... وذهبوا إلى الجولان ، ووقفوا فوق تلة الصراخ .. ونظروا إلى ارض الجولان المحتل في مجدل شمس وما حولها ، وبدت في الأفق ارض فلسطين ، جذبتهم هذه الأرض نحوها وفردت ذراعيها ونادت عليهم :
(أنا أمكم تعالوا لأحضنكم، فقد طال فراقنا وازداد شوقنا لكم ... )... لم يستطع هذا الشباب المقاومة ، فاندفع إلى ملاقاة أمه واجتاز حقول الألغام- وهو يعلم انه سيموت – لكن الألغام لم تنفجر بهم ، فقد ذهلت وبطل مفعولها من قوة إرادتهم وشجاعتهم الخارقة التي تحمل قهر ثلاثة وستين عاما من البعاد القسري، والأحلام المحبطة للآباء والأجداد الذين غذوهم – مع حليب أمهاتهم- بحب فلسطين ، ووصفوا لهم أرضها وبيوتها وشجرها وماءها وبحرها ومقدساتها ، وأمسكت أيديهم بشبكات الأسلاك الشائكة وسياج الأسلاك المعدنية ، فتمزقت تلك الشبكات بفعل قوة قبضاتهم التي تتدفق منها حرارة حب الوطن والأرض والأهل...
اجتازوا الأسلاك وحقول الألغام ووصلوا إلى مجدل شمس ... حيث غمرهم أهلنا في الجولان المحتل بالحب والترحيب والعناق والمساعدة ... واختلطت الهتافات الوطنية لفلسطين والجولان ، بدموع الفرح والعزة ...
صعق جنود الاحتلال وذهلوا أمام هؤلاء العمالقة الشباب وإرادتهم الشامخة ، وأطلقوا عليهم الرصاص و قنابل الغاز ... ولكن دون جدوى ... لأنهم أرادوا أن يخيفوا هذا الشباب بالموت ... فكان موقف الشباب : إننا نريد أن نموت ، فبماذا تخيفوننا ؟؟
هكذا تم إبطال مفعول التهديد إمام الإرادة البشرية الخالقة لقدرها ومصيرها ، المعتمدة على ذاتها ، والتي لم تعد تثق بالوعود مهما كثرت ، والتي أمسكت مصيرها بنفسها . إنها إرادة الشباب وروحهم الجبارة ، التي راهن الكثيرون على إنها غير موجودة ، أو أنها ضعفت وماتت ... ولكن الشباب انتفضوا مرددين قول الشاعر /المتنبي/ قائلين :
كم قد قتلت ، وكم قد مت عندكم ثم انتفضت فزال القبر والكفن

مضت ساعات ذلك اللقاء وكأنها لحظات ، وانتهى هذا اللقاء الرائع والنادر في مجدل شمس بين شباب فلسطين المشردين وبين أهلنا الصامدين في الجولان... بأربعة شهداء رووا بدمائهم الطاهرة ارض الجولان ... وبعشرات الجرحى ، وعاد الشباب إلى بيوتهم يروون بأحاديث حارة، تفاصيل لقائهم بأرض الجولان وأهله ، وكسرهم إرادة الاحتلال والدوس على حواجزه المصطنعة ...وكذلك أهلنا في الجولان يروون بطولة هؤلاء الشباب وشجاعتهم وروعتهم ...
لقد روت دماء هؤلاء الأبطال ارض الجولان ... التي تعاني مع ارض فلسطين من محتل واحدة ، وقد سبقتهم دماء زكية أخرى من شباب الجولان المحتل ، واستشهدوا في هذا المكان خلال سنوات الاحتلال . وستجري دماء الشهداء الزكية مع مياه -وادي المغيسل- الذي اجتازوه للدخول إلى مجدل شمس ، وسترفد هذه المياه- نهر سعار- ، الذي يرفد بدوره- نهر بانياس- الذي يرفد بدوره أيضا -نهر الأردن- الذي يغذي فلسطين بالحياة ... وستروي هذه المياه والدماء أرض فلسطين بعد أن روت أرض الجولان ... وستضيف فروعا جديدة لشجرة الربيع العربي المزهر .
في اليوم التالي الاثنين 16-5-2011 تم تشييع جثامين الشهداء في مخيم اليرموك جنوبي دمشق، في عرس وطني كبير ... وسط هتافات وطنية لفلسطين والجولان والشهداء ، والتقدير لموقف أهلنا العرب السوريين في الجولان ، قائلين في هتافات التشييع : ( يا شهيد قوم شوف شو عملوا بني معروف ) .
تنادى أبناء الجولان المحتل النازحين من قرانا المحتلة ( مجدل شمس – مسعدة – بقعاثا – عين قنية- سحيتا) والذين يسكنون في جرمانا –قرب دمشق- تنادوا للذهاب إلى مخيم اليرموك لتقديم واجب التعزية بالشهداء ... وخلال سيرنا في شوارع المخيم ، عرفنا الناس من خلال الزي الديني الذي يلبسه بعضنا ... فتقدم الكثير منهم ونحن في السيارات وسلموا علينا .. وقدموا عبارات الشكر والتقدير لوقفه أهلنا في الجولان المحتل مع أبنائهم العابرين الأبطال ...
كان لقاء التعزية / مع ذوي الشهداء والحضور الكبير في سرادق العزاء / مؤثرا جدا ، وحارا وحميميا ... وألقى الأخ الأستاذ /أبو احمد فؤاد منذر/ كلمة باسمنا نقل فيها تعازينا وتعازي أهلنا في الجولان لذوي الشهداء وأبناء الشعب الفلسطيني ، بهؤلاء الشهداء الأبطال وأكد أنهم عبروا – هم وأهلنا في الجولان المحتل – عن وحدة النضال والموقف بين عرب الجولان وفلسطين ضد الاحتلال المشترك ... وخلال مكوثنا في سرادق العزاء ، كان الجميع ممن شاركوا في هذا العبور يكلموننا بحماسة ، ويصفون ما جرى بتأثر كبير، ويتحدثون بالتقدير عن موقف أهلنا في الجولان الذين احتضنوا هؤلاء الشبان ، وحموهم بأجسادهم من جنود الاحتلال ، وقدموا لهم كل ما استطاعوا من رعاية طيبة وغذاء ودعم وتأييد .

و بعد أن ودعناهم و خرجنا ، أحاط بنا الكبار والصغار يشكروننا ويحملوننا التحية والتقدير لأهلنا على موقفهم النبيل... ومن اللقطات المؤثرة ونحن خارجون من العزاء ومعنا الشيخ / أبو عادل سلمان الولي / أن تقدم شاب فلسطيني من بين الجمع المحيط بنا وتناول يد الشيخ ،وانحنى وقبّلها ووضعها على جبينه ، شاكرا موقف أهلنا معبرا عن إننا جميعا أهل وأصحاب قضية واحدة ... طبعا ..غمره الشيخ أبو عادل وقبّله ...، وقد تقدمت نحو ذلك الشاب، وعانقته وسط دموع التأثر العميق من هذا الموقف النبيل و الوفي الذي يعبر عن الروح العريقة والعظيمة للشعب العربي الفلسطيني...
هذه الروح التي لم ، ولن تموت ... والتي تؤكد انه لا يموت حق وراءه مطالب ، وان قضية فلسطين هي قضية عربية بالأساس ، كما عبر عن ذلك أمير البيان / شكيب ارسلان/ ، الذي ستبقى كلمته الخالدة ..(أوصيكم بفلسطين)، شعلة متأججة في عقل و ضمير كل عربي وحر ... طالما أن هناك حياة تتجدد، و شباب يصمم و لا يتردد .